الأشهاد
كلٌّ يعرِفُ ما لَهُ وَمَا عَليْهِ، ولكِنْ حين يطغَى الإِنسانُ تَنْحَرِفٌ السَّفِينّةُ، فيقولُ اللهُ: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور: 21).
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38)
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود: 18)
فأما «الأشهاد» ففيهم خمسة أقوال:
أحدها: أنهم الرسل، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: الملائكة، قاله مجاهد، وقتادة.
والثالث: الخلائق، الناس، قتادة ومقاتل: يقال: على رؤوس الأشهاد، أي: على رؤوس الناس.
والرابع: الملائكة والنبيون وأُمة محمد r يشهدون على الناس، والجوارح تشهد على ابن آدم. قاله ابن زيد.
والخامس: الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجاج.
قال ابن الأنباري: وفائدة إِخبار الأشهاد بما يعلمه الله: تعظيم بالأمر المشهود عليه، ودفع المجاحدة فيه.
وكذلك: الأرض تحدث أخبارها.
البخاري: قَالَ رَجُلٌ ابْنِ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ r فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، [حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ] وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا. فَيَقُولُ: نَعَمْ. أَيْ رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ. قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ]. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ -[وَأَمَّا الآخَرُونَ أَوِ الْكُفَّارُ]-، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ -[فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ]-: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ». (2441 ومسلم (7191).
المسلم الصادق العاصي: عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا..». مسلم (6805)، فَإِنَّهُ يَصدُقُ فِي الآخرةِ كَمَا كانَ في الدُّنيَا، فَيُقِرُّ بذنبه، ويعترف به مقتديا بأبويه حين: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23)، فيجازيه الله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(119) فيستره ويغفر الله له، فقد كان يعفوا ويصفح في الدنيا عمن أساء له، واعتدى عليه، ممن يستحق العفو والصفح: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور:22).
وأما الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ:
فإنه كان يَكْذِبُ، ويخادعُ ويُراوغُ وينافقُ، ويَدَّعِي ما ليسَ فيهِ، ويُنكِرُ الحقَّ، ويَستَكْبِرُ، ويُفسدُ في الأرضِ، ويُكَذِّبُ بِآيَاتِ اللهِ، وَرُسُلِهِ، وَيُكَذِّبُ أَهلَ الحقِّ، حَتَّى كُتِبَ عِندَ اللهِ كذَّابًا، ويجيءُ في يومِ القيامةِ على هذه الصفة النَّكراءَ، التي تمتع بها في الدنيا حتى أضحتْ سِمَةً لهُ وَسَمْتًا، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «..، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا». مسلم (6805)، ويَاْتِي يَومَ القيامةِ، فيكذبُ عَلى اللهِ كما كّذَبَ عليهِ في الدُّنيا، فيلقَى جَزاءَ مَا زَرَعَ وغَرسَ، وكَسبَتْ يَداهُ، فيداهُ أَوكتَا وفُوهُ نَفَخَ، {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ(22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23)}(الأنعام: ). فيختم الله على فيهِ، وَيَشهدُ عليهِ: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يس: 65). كما قال فيمن يقذفون المحصنات: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25)} (النور.
ويستَمِرُ هؤلاءِ النُّكَداءُ عَلَى ضلالِهِم بَعدُ، وَهُمْ يُسَاقُونَ إِلى جَهَنَّمَ، بَعدَ أَنْ شَهِدَ عَليهُم الشُّهُودُ: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(20)} (فصلت)، فيَقُولُونَ للشُّهُودِ: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ(22)وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ(24)} (فصلت: ).
في القائل ألا لعنة الله على الظالمين احتمالان: الأول: أن يكون من كلام الله تعالى وحينئذ يجوز أن يراد بالظالمين ما يعم الظالمين بالافتراء والظالمين بغير ذلك ويدخل فيه الأولون دخولا أوليا.
(الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا): والمراد أنهم يصفون شريعة الله بالانحراف، وهي أبعد شيء عنه. ويبغون أهلها أن ينحرفوا عنها ويرتدوا.